الاثنين، 26 مايو 2008

أيها الـــــــــــفكر من سلبك


الفكر نشاط ذهني لتفسير التعاليم الدينية ، ومرتكز للمعايير والقيم ،ومنبع التصور التكاملي للكون والحياة ،وملاذ لكل نتاج العلوم والمعارف يهيمن على الجنان ويسير الأركان فمنه تتبلور ولاءات الفرد ،وتنطلق انتماءاته وقد بين ابن خلدون مدى طواعية الحواس وانقيادها للفكر قائلاًً (( ولمَّا كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره وجعل للإنسان عوضا من ذلك كله الفكر واليد فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر)) ولمَّا كان للفكر دورا لقيادة والهيمنة على نوازع الإنسان وتطلعاته فقد مر عبر الحقب التاريخية إلى هجمات حربية شرسة حاول فيها أربابها نقل حضارتهم وثقافتهم على فوهة البندقية وعنق المدفعية لبسط نفوذهم على أي طيف بشري أو شريحة إنسانية تتحضر بغير حضارتهم أو تنهج نهجاً يصادم قيمهم وسلوكهم وحينما باءت تلك الهجمة الهمجية بالفشل و أصيب متولو كبرها باليأس والإحباط جراء عدم نجاحهم في تحقيق مرادهم بالقوة والعنف جنحوا إلى الاستلاب الفكري وكانوا يتطلعون من وراء ذلك إلى تضليل الوعي و اعتساف النفس لتسير مسلمة بما يملى عليها من متطلبات دون أدنى مخالفة أو رفض لدورها المزمع لها وعندما نتقصى أبرز المراحل الاستلابية للفكر نجد أن أوربا واجهت أعتى حملة استلابية للفكر من الكنيسة بعد أن فرضت على رعاياها قضايا عقدية وطقوسا دينية وحجبت أسرارها بِسُجُف قدسية أمام من يدفعه حبُّ المعرفة للتساؤل عن حقيقتها أو عن حِكَمِها وطالبت بالتسليم لها دون نقاش حتى لا تُكتَشفُ نواياها ومزاعمها وسعت سعيا دؤوبا لسد جميع السبل المؤدية إلى تحريك العقل وإيقاظه من غفوته تحت غطاء الدين واعتبرت السؤال عن تلك الطقوس التعبدية كفر ،و موجوب الطرد والإبعاد عن الرعاية البابوية وما ذاك إلا لعلمهم التام بأن تلك الطقوس الدينية لا تصمد أمام تلك المناقشات بل ستتداعى أصولها عندما يتفكر العقل في حقيقتها و يتأمل أبعادها فسيَّرت الكنيسة العقل آسيراً لذل طغيانها و جعلته في ليل بهيم مجرد من مَلَكَات التفكير؛حتى لا يخرج عن طاعة الكنيسة ولا يبرح حظيرتها بل يظل تحت شرائعها و عاكفا ،ولأوامرها ممتثلاً((يصف تشارلس ديكنز مشهداً من مشاهد الذل الروحي الذي كان يمارسه رجال الدين الكنسي فيصف شارعا من شوارع باريس والمطر ينهمربقوة والشارع مملوء بالطين والأقذار والوحل وموكب الكاردينال أحد(مستلبي فكر الناس انذاك) على حصانه يمر في الطريق والناس محتشدة على صفين ترقب ذلك المشهد بقلوب خائفة واجفة وتنتظر اللحظة الهائلة التي يحاذي الموكب فيها رؤوسهم فتهوى الرؤوس خشوعا ومذلة للمركب الموقر وتظل تهوي حتى تلتصق بالأرض في الوحل والطين والقاذورات)) تسليم وتبعية عمياء حظيت بها الكنيسة بعد أن استلبت الفكر وانقادت له الجوارح بإذعان تام مع رهبة وخشية في أداء تلك الشعائر الكنسية من غير فيئة في ذلك ومن يشع في فكره شذرات تفكر فتحدوه إلى اكتشاف علمي يؤول به الأمر إلى محاكم التفتيش حيث هناك يلقى جزاءه الأوفى والتاريخ الأروبي يقدم مشاهير أمثال كوبرنيكوس وجاليليو خرجا عن جوقة العميان فكريا وصدعوا باكتشافاتهم لكروية الأرض فكان مآلهم للسجن والحرق ليكونا شهيدي الحقيقة والإرادة وبعد أن وصلت مصادرة العقل منتهاها واستلاب الفكر غايته وضاقت البرية ذرعا بصراع العلماء مع رهبان الكنيسة فتمخض عن ذلك الصراع ثورة عارمة ضد القيود الكنسية فاهتبل اليهود تلك الثورة وركبوا موجتها ووجهوها لما يخدم مآربهم وأطماعهم فولجوا قلوب الناس من ثغرات أحدثتها الكنيسة كان من أبرزها محاربة العقل والعلم فدعموا النهضة العلمية التي غشيت أوربا لتهيئ لهم تولي مقاليد الأمور و تمهد لهم السبيل في استلاب الفكر بعد انزياح دور الكنيسة عن مسرح الأحداث وروجوا الكثير من النظريات العلمية ومن أبرزها نظرية دارون التي أسماها(التطور والارتقاء) ونظرية فرويد في علم النفس ونظرية (العقل الجمعي)لدور كايم في علم الاجتماع وجميعها تصب في مستنقع عفن هدفها أن تصل إلى غاية مفادها إيجاد قواسم مشتركة بين الإنسان والحيوان وترمي من وراء ذلك إلى اجتثاث جذور الدين من القلوب المشرئبة به ونزع القيم الأخلاقية وإزالة جميع المعايير الإنسانية التي يستمد الإنسان منها كرامته وبها يتسامى عن الدنايا الحيوانية وما ذلك الا ليتسنى لهم تسيير الأمميين والوصاية على عقولهم ليتحقق لهم ما يصبون إليه ولم يكن الفكر في الشرق العربي بمنأى عن الاستلاب فلقد أظلته أزمنة حاولت أطراف تغيير صورة المجتمع الثقافية عبر بوابة العنف والبطش وجيشت جنودا لأجلها و انطلقت بثورة الزنج وانبثقت من البصرة ولكنها ما لبثت أن اصطدمت بإرادة المجتمع فآلت الأمور بها إلى حيث لا اقتناع فكري ولا استقرار مكاني مما جعل أصحابها يعيدون الكرَّة غير يائسين من فشلهم في لمحاولة الأولى ولكن عبر وسيلة سلمية ترجمتها رسائل الصفا وخلان الوفا أخفوا أسماءهم وبثوها في مهيع الثقافة آنذاك وهو سوق الوراقين وأظهروا أن مقصدهم من تلك الرسائل يهدف إلى تجديد الشريعة وتنقيتها من الجهالات ولكن مضمونها يسفر عن نوايا مبطنة تهدف إلى إذابة الفوارق بين الأديان ودس كثير من الفلسفات المتصادمة مع حقيقة الدين ليحصل المؤمل من وراء ذك وهو استلاب المجتمع فكريا ليتمكن لهم تطويعه والهيمنة عليه ومن ثُمَّ تشكيل العقول حسب ا لرؤى التي تتماهى مع متطلباتهم وتوافقأ هدافهم.ولا تزال أحداث الاستلاب الفكري مستمرة الفصول فان توحدت الغايات فالأساليب متجددة بتجدد الأيام مستغلة كل جديد تهبه الحياة لأبنائها ومما وهبته ابتكارات الحياة في هذه الأيام الإعلام العلا ع الذي ولج المنازل وملك أزمة الأفئدة وأعنة العقول وأصبح موردا معرفيا يتسابق الناس إليه كل يلقي دلوه لينهل منه بغيته التي يشتكي منها عطش الجهل مما جعل بعض الأطراف تستغل ذلك المورد الذي يزدحم الناس عليه لتبث فيه سمومها مستلبة فكرهم بعد أن تُنَمط تلك اللوثة بأنماط شتى تارة عبر برامج تصبغها بصبغة ثقافية لتناقش فيها مُسَلَّماً دينيا أو قضية من قضايا الشرع كقضية الجهاد أو حجاب المرأة أو ولاية المرأة وتزيل عنه ستار القداسة ليلغ الناس فيه بأهوائهم فتصيروه كأي قضية اجتماعية ممنوحة متساعا من هامش الحرية ،أوتعمد إلى الإسقاط التاريخي عبر المسلسلات الدرامية فتتناول شخصية كأبي نواس أوحماد عجرد وتسهب في سرد حياة المجون واللهو والعبث التي مارسها كل واحد في حياته وتعممها على ذلك العصر لتبين للمشاهد بأن المسلمين الأوائل يعيشون حياة ترف وخنا والنتيجة التي يتلمسونه من وراء ذلك تشويه التاريخ الإسلامي ،أو تعمد إلى رموز الحضارة الإسلامية أمثال خالد بن الوليد أو الأمين والمأمون أو عمر بن عبد العزيز فتسم تاريخهم بالاستبداد والهيمنة على الرعية أوتسمه بالصراع الدائم واستحلال الدماء والأموال من أجل السلطة وما ذاك إلا لتلغي الأعمال البطولية التي يتشرف التاريخ بتدوينها في سجلاته و تسقط رمزا بطوليا وصورة القدوة المثلى الذي بنى مجدا وفتح دنيا ونشر خضارة ليذهب الجيل بعد هذا الاستلاب الفكري إلى إشباع رغبة الاقتداء بشخصيات لا تمت لدينها وأمتها بلون ولا لغة ولا نسب وربما قفزت تلك المسلسلات على خط القيم والسلوك موغلة في دراما العشاق والحكايات الغرامية التي ترفع العشيقين في مصاف الأبطال حيث كسرا سورة القيم والأعراف وحقق مراميهما رغم الصعاب فالرذيلة جاءت في زي الفضيلة كل ذلك لنزع الحشمة من الأفئدة فهل يا ترى بعد هذا تستيقظ الضمائر في ذواتنا أم نظل في سباتنا لننتظر ماذا سيكشف لنا مستقبل الأيام من حيل استلابية للفكر إني أتساءل ؟

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
غير معرف يقول...

أبارك للقاريء هذه المدونة، فقد نشرت معاناة المبتعث السعودي للخارج، كما حملت بعض هموم أمتنا الاسلامية بأسلوب أدبي راقي. أتمنى من أخي فيصل مواصلة الكتابة، فنحن متابعون ومتشوقون.


محمد الشويعر

غير معرف يقول...

الأديب فيصل ..

نحن نعرفك جيدا أنك صاحب مهنة جميلة جدا وراقية هي (( مهنة الكتابة الأدبية الراقية )) وانت لا شك فيه صاحب ثقافة واسعة وقلم أدبي راقي
لك مني كل الشكر على أطروحاتك الجميلة ونطلب منك المزيد لأننا في شوق ولهفة لكتاباتك المبدعة ...

نايف اليوسف